اغتيال نصر الله- تصعيد إسرائيلي وتداعيات الحرب على لبنان

في إعلان رسمي مفاجئ، صرح الجيش الإسرائيلي يوم السبت الموافق 28 سبتمبر/أيلول عن مصرع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إلى جانب القيادي البارز في الحزب، علي كركري. وقد سبق هذا البيان الرسمي بلحظات تأكيدات متسارعة من وسائل إعلام إسرائيلية، مفادها أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تمتلك دلائل قاطعة تشير إلى أن السيد نصر الله لقي حتفه في عملية الاغتيال التي نفذت ليلة الجمعة.
وبعد ساعات من التكهنات المتضاربة التي أحاطت بالعملية، أعلنت إسرائيل بشكل رسمي عن اغتيال السيد حسن نصر الله، مع الإشارة إلى أنه حتى اللحظة لم يصدر أي بيان رسمي من قبل حزب الله يؤكد أو ينفي هذا الخبر. ومع ذلك، فإن المؤكد حتى الآن هو أن رد فعل الحزب على العملية التي استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت كان باهتًا ومحدودًا بشكل ملحوظ.
إذ اقتصر الرد حتى الآن على إطلاق صليات صاروخية متفرقة، على الرغم من أن بعض هذه الصواريخ قد طال مستوطنات جديدة وبعيدة لم تكن ضمن الأهداف المعتادة في السابق. هذا ما أكده بوضوح بيان صادر عن الجيش الإسرائيلي صباح السبت 28 سبتمبر/أيلول، حيث أعلن عن قصف صاروخي انطلق من الأراضي اللبنانية واستهدف مستوطنات في الضفة الغربية، وذلك لأول مرة منذ عملية الضاحية.
وفي سياق متصل، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يوم الجمعة الموافق 27 سبتمبر/أيلول، من على منصة الأمم المتحدة، سلسلة من التهديدات الصارمة التي طالت إيران وجميع الحركات المقاومة التي تدور في فلكها. وقد خصص نتنياهو في تهديداته حزب الله، معتبرًا أنه اختار مسار الحرب، وأنه لا يوجد أمام إسرائيل خيار آخر سوى الحرب، حتى تتمكن من إعادة أبنائها إلى الشمال.
ولم يكد نتنياهو ينهي كلمته حتى أُعلن في بيروت عن سلسلة غارات جوية مكثفة استهدفت المقر الرئيسي للقيادة العامة لحزب الله، ليتبع ذلك ضجة إعلامية واسعة النطاق في وسائل الإعلام المحلية والعالمية، تمحورت حول نبأ استشهاد السيد حسن نصر الله. وقد شهدت الساحة اللبنانية حالة من القلق الوجودي العميق، في ظل الأجواء السوداوية التي خيمت على المشهد العام بعد هذه العملية.
ومن قلب نيويورك، أُعلنت بوادر الحرب الكبرى ضد حزب الله، وذلك عندما أعطى نتنياهو موافقته على تنفيذ ضربات جوية واسعة النطاق على الضاحية الجنوبية لبيروت. والمثير للدهشة أنه أعلن هذا الأمر من على أعلى منبر عالمي، وهو المكان الذي يفترض أن يكون مخصصًا للدعوة إلى السلام العالمي، وليس لإعلان الحروب وارتكاب المجازر. وهذا إن دل على شيء، فإنه بالتأكيد يدل على حصوله على الضوء الأخضر الأميركي، وقد تكون هناك تسويات سرية قد تم تمريرها في دهاليز مجلس الأمن.
وذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن طائرات "إف-35" المتطورة نفذت الغارات الجوية باستخدام قنابل خارقة للتحصينات، وكان الهدف الرئيسي هو مقر هيئة أركان حزب الله، والشخص المستهدف هو السيد نصر الله نفسه. ولم يتوقف سيناريو الحرب عند هذه الضربات الأولية، بل استمرت إسرائيل في تنفيذ غاراتها الجوية، محذرة السكان من إخلاء منازلهم في الضاحية، لتشهد شوارع العاصمة اللبنانية من جديد حركات نزوح جماعي غير مسبوقة، في صورة مأساوية تشبه إلى حد كبير ما حدث في قطاع غزة بحق الشعب الفلسطيني.
ولم تهدأ الجبهة اللبنانية منذ أن أعلن حزب الله في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن فتح جبهة "المشاغلة" للجيش الإسرائيلي، بهدف تخفيف الضغط عن قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية عليه. وقد سعى الحزب إلى وضع قواعد اشتباك واضحة مع العدو الإسرائيلي، تتضمن عدم استهداف المدنيين، وتحديد الإطار الجغرافي المسموح بتنفيذ العمليات فيه. وعلى الرغم من أن حزب الله سعى جاهدًا للحفاظ على هذه القواعد، فإن الجانب الإسرائيلي كان دائمًا ما يتعمد خرقها، من خلال توجيه ضربات في العمق اللبناني، مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين بين شهيد وجريح.
وشهد الصراع الإسرائيلي مع حزب الله أيضًا خروقات أمنية كبيرة، كان أبرزها تفجيرات الأجهزة اللاسلكية (البيجر) التابعة لعناصر الحزب، والتي أدت إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى، وإصابة الآلاف بإصابات بالغة، وصلت بالبعض إلى حد الإعاقة الدائمة.
هذا التطور الأمني الخطير لم يطرح معادلة "ما قبل البيجر ليس كما بعده"، كما طرحه الحزام الناري الكثيف الذي نفذه سلاح الجو الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية، والذي دفع بوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، للقول إن العودة إلى الوضع الذي كنا فيه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول فيما يتعلق بالحدود بين إسرائيل ولبنان لم يعد أمرًا كافيًا.
ومن خلال تصريح بلينكن هذا، يستطيع المتابع ربط الأحداث بسهولة، ليفهم التداعيات المحتملة للضربة التي ستحدد طبيعة المرحلة المقبلة. فقد انفتحت الجبهة على كافة السيناريوهات المحتملة، وما وصفه نتنياهو بـ "أيام معقدة" سيشهدها لبنان قد تتحول إلى أسابيع وربما أشهر، إذ دخل لبنان دوامة الحرب الواسعة وسقطت كافة الخطوط الحمر وبات كل شيء متوقعًا.
ولهذا السبب، ينتظر الرأي العام اللبناني، وتحديدًا ما يعرف ببيئة حزب الله الحاضنة، أن يكون رد الحزب مزلزلًا على إسرائيل، مستندين في ذلك إلى خطاب السيد نصر الله الذي أكد فيه أن أي خرق لقواعد الاشتباك سيعني حربًا "بلا سقوف ولا روادع".
وعلى الرغم من الضربات الموجعة التي تلقاها الحزب، وعلى الرغم من المشهد المأساوي الذي يعيشه جمهوره من حركات النزوح دون وجود خطة طوارئ جاهزة، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن المنطقة مقبلة على حرب كبرى، بقدر ما يعني أن الحزب يدفع ثمن التسويات الكبرى، إلا إذا صدقت التهديدات الإيرانية، وأوعزت بفتح كافة الجبهات على إسرائيل بهدف إزالتها من الوجود.
وتعمل إسرائيل جاهدة على تطبيق سياسة "كي الوعي" المقاوم، من خلال اللجوء إلى تنفيذ عمليات اغتيال تستهدف كوادر المقاومة. ولكن ما أشار إليه مستشار المرشد الإيراني، علي لاريجاني، يوضح عكس ذلك تمامًا، ويؤكد أن المقاومة مستمرة؛ لأنها بحسب زعمه "تضم قادة وكوادر أقوياء، وكل قائد يستشهد سيكون له بديل، وإسرائيل تتجاوز خطوط إيران الحمراء والوضع بات خطيرًا".
إن ما قاله لاريجاني واضح ومباشر، ولكن ما ليس واضحًا على وجه التحديد هي الخطوط الحمراء التي ذكرها، لا سيما أن إيران لم تزل حتى الآن لا تحبذ فكرة الدخول في حرب كبرى، ولكنها في الوقت نفسه لا تستبعدها، على الرغم من حاجة نتنياهو الماسة إليها. وهذا ما يؤكد وجود تقاطع في المصالح الإيرانية – الأميركية بعدم الرغبة في توسيع نطاق الصراع.
إذ يرى البعض في الإعلان الذي صدر عن الولايات المتحدة بشأن التوصل إلى اتفاق جديد مع الحكومة العراقية يوم الجمعة الموافق 27 سبتمبر/أيلول، لإنهاء المهمة العسكرية للتحالف الذي تقوده بحلول العام المقبل، بحسب ما ذكرته وكالة "أسوشيتد برس"، بأنه مؤشر قوي على وجود تسوية قادمة بين طهران وواشنطن حول مسار الحرب في لبنان.
فهل فعلًا تتلاقى عمليات التهجير المخطط لها مع التقاطع الأميركي – الإيراني على القيام بعمليات ترانسفير قسرية لسكان المناطق التي تتعرض للقصف، ونقلهم إلى سوريا والعراق؟ خصوصًا أنه مع بداية تنفيذ الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية صباح الاثنين الموافق 23 سبتمبر/أيلول، شهدت حركة المصنع زحمة سير خانقة في الاتجاه المعاكس نحو سوريا، وتحديدًا للعوائل المنتمية إلى منطقة الزبداني الخاضعة لسيطرة حزب الله، كما صرحت بعض المصادر المقربة منه.
في نهاية المطاف، ليس من الضروري أن تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر؛ لأنه ما بين تقاطع المصالح المتباينة واشتداد حدة القصف المتبادل، تبقى الكلمة الفصل للميدان، لأن أي خطأ بسيط في الحسابات قد يشعل المنطقة بأكملها، وعندها لن يكون هناك مجال لأي تسوية أو مفاوضات، بل ستنتهي الأمور على قاعدة "غالب ومغلوب".